الجمعة، 26 نوفمبر 2010

المستحيلات الثلاثة (الجزء الخامس) – المعركة


وصلنا إلى المنزل بعد انتهاء الزيارة. مشى كل منا يجر اذيال اليأس , يحاول ألا يفكر فيما سيحدث . طبقا لكلام الأطباء, زال الخطر ...ولكن كيف ستكون الحياة بعد اليوم؟ كيف يمكن ان يعيش الجميع حياة طبيعية إذا كان رب الأسرة لديه اعاقة ذهنية وشلل رباعي؟
دخلت
غرفة النوم. جلست جدتي على حافة السرير لتصلي, وانا رقدت على السرير هي أقرب إلى ركدت" ... فقد ظللت دون حركة لبضع دقائق, محاولا ان احجب مانحاول كلنا ان نحجبه من أفكار. تذكرت الحلم وتذكرت الفكرة التي جائتني وأنا أطمئن أختي, فقررت ان أهرب من دنيا الواقع المظلم الذي لا يرى له أحد من نور عما قريب, إلى دنيا الحلم الغامض, لأجرب الفكرة, لربما استطيع تغيير شيء في الحلم, لمقاومة هذا الشعور الخانق الذي انتابنا جميعا ونحن مكتوفي الأيدي أمام مرض والدي.
ليست من قدراتي النوم بسهولة, ولكن في هذا اليوم ,اتاح لي حنقي ان أفعل ما أشاء. أرحت رأسي على المخدة, ولم يستغرقني الأمر إلا دقائق, كنت بعدها في كابوسي المعتاد الذي اصبحت اشعر فيه بأمان أكثر من الذي اشعر به في واقعي. اتذكر انني أثناء اغماض عيني, سمعت صوت جدتي تصلي وتدعو الله تعالى ان يزيح عنا همومنا وان "يحلها من عنده", فـلم يبقى أي طريق اخر نسلكه.

تكرر الحلم ثانية!
فتحت عيني فوجدت راسي بجوار قدم الغول النتنة. انتفضت واقفا, و شاهدت من جديد ميلاد العنقاء, وتحول ملامح الغول لتصبح أكثر شراسة. ثم اختبأت وراء أحد الأشجار التي كانت تحيط بنا, وشاهدت مجددا المعركة الضارية بينهم. ثم جئنا لللحظة الحاسمة التي لطالما حيرتني. دب الغول بيديه على الأرض فـاهتزت, وسقطت من السماء المملوءة بالبرق أمطار غزيرة تسببت في إضعاف قوة العنقاء. أطاح الغول بها فـسقطت هامدة بيني وبينه, وتحرك نحوي. استطاعت العنقاء بالكاد أن تقف ناظرة إلى, باكية ولكنني ادركت هذه المرة ان سبب البكاء لم يكن لأنها لن تسطيع حمايتي بعد الآن, ولكن سببه كان الاستنجاد. لقد ارادت العنقاء ان تستمد مني القوة  لتهزم الغول. نظرت نحوي باكية, فخرجت من مخبأي وراء الشجرة, وهممت لمسعداتها, مادا يدي, مطمئنا وجدت نفسي اقول  "متقلقيش إن شاء الله كل حاجة هتبقى تمام أنا موجود جمبك أنا مش هروح في حتة لسة في أملأنا هنا "
كان
الغول قد اقترب. اشتعلت عيني العنقاء فجأة في صمت  وظلت ناظرة نحوي, فـفهمت ماستفعله. انتظرت حتى شعرت به ورائها مباشرة, فـفردت جناحيها مرة أخيرة وتحولت إلى كتلة لهب مفترسة أقوى من جميع المرات التي اشتعلت فيها من قبل. احترق الغول بالنيران الشديدة صارخا بشراسة, ناظرا إلى السماء في استنجاد, ولكن لم تقدر أمطار السماء الغاضبة على إطفاء نيران العنقاء التي قررت ان تضحي بنفسها من اجلي ... ازدادت النار اشتعالا, حتى بدأت العنقاء في التحول إلى رماد مرة أخرى. لم أكن أعلم إن كنت اتهيأ ام لا,ولكنني رأيت الغول ينكمش هو الأخر في وسط النيران, ويتحول إلى مايشبه أفعى سوداء غليظة. نظرت الأفعى الي بدهاء من بين ألسنة اللهب , ثم ابتعدت بسرعة مختفية في ظلام الغابة التي كانت تحيط بنا.

جريت نحو الرماد الذي كانت قد بدأت ناره في الخمود, باكيا على الطائر الجميل الذي وهب حياته من أجلي. جلست على ركبتي لدقيقة ناظرا إلى الرماد, في  وسط الظلام غير داريا بما عليَّ فعله الآن.
سمعت
صوتا يتكرر,آتيا من مكان ما من حولي. يأتي كل مرة من اتجاه مختلف, ولكنه نفس الصوت ... صوت حثيث هادئ مرعب بدأ الصوت في الارتفاع حتى اصبح كل ما أسمعه. شعرت بشيء ما يتحرك خلف الأشجار التي كانت تحيط بـي, نظرت حولي  فرأيت فروع الشجر تهتز في تتابع , وكأن هناك شيء مايتلف حولي وحولها. فجأة, رأيت أمامي على بعد في وسط الظلام أعين الأفعى السوداء مضيئة بلون أحمر بين الأشجار ... سمعت حثيثها مرة أخرى ورأيت لسانها الرفيع الطويل يلمع على ضوء القمر ... لقد كانت هذه الأفعى هي الغول الجديد. بدأت تتحرك نحوي ببطء وثقة. كلما إقتربت مني وخرجت من الظلام الذي كانت تستتر به, بدأ حجمها الضخم يظهر مع جلدها اللزج وانيابها المسنونة, وأعينها المملؤة بالدهاء , ولسانها الطويل ….

لم اشعر بنفسي وأنا أستدير إلى الخلف راكضا وجسدي كله يرتجف رعبا, تمنيت لو استطيع الاستيقاظ من هذا الكابوس. جريت بين الأشجار بكل ماأوتيت من قوة, وصوت حثيث الغول يأتيني من كل الإتجاهات, أسمع صوته يسحق بحجمه الأشجار التي تقابله وهو يتبعني ببطء وكأنه واثقا من النيل مني. كنت أسمع وساوس بداخلي تهبط من قوتي, وكأن عقلي الباطن يحثني على التوقف والاستسلام, ولكن في شكل أصوات عديدة مرعبة أسمع صداها بداخل رأسي. جريت وأنا أصرخ حتى لا أسمع. كنت أرى السماء المنارة بضوء القمر تظلم فوق الأفعى, وتبقى مظلمة فوق كل مكان تمر به.
بعد دقائق, انتهت الاشجار وخرجت من الغابة إلى ساحة كبيرة من الرمال, في اخرها سلسلة من الجبال المتلاصقة. كنت لا ازال أسمع صوت الحثيث, فأكملت ركضي بالرغم من انني كنت قد فقدت قواي كلها, وتصلبت عروقي بالفزع. رأيت في الأفق وميض سريع قوي. ظهر مكان الوميض شخص له نفس الوجه المألوف الذي رأيته بالكهف, مرتديا عباءة واسعة, بها غطاء لرأسه متدليا من الخلف. قبل ان أتمكن من الوصول إليه لبس غطاء الرأس, فـاصبح وجهه غير ظاهرا في الظلام. نظر الي بهدوء  وبرود. كدت أجن وأنا أجري نحوه مستنجدا به وقد اقتربت نهايتي وهو لا ينفعل, لا يتحرك
أدرت رقبتي إلى الخلف وأنا اجري لأرى الغول. كان يبعد عني بضع أمتار لا أكثر. تحركت رأسه بدهاء إلى أعلى , ثم اخذت استدارتها المعتادة, ووجهت عينيها المخيفتين الغاضبتين نحوي. أخرجت لسانها اللامع من جديد في استعداد للهجوم.

التفتت بسرعة إلى صاحب الوجه المألوف, فرأيت أجنحة بيضاء تخرج من ظهره من الخلف. بدأ يحرك ذراعيه في الهواء بحركات غريبة, وكأنه يستحضر شيئا ما. صرخت مناديا ربما يسمع ندائي ويستجيب, صرخت بكل ماتبقى لدي من طاقة, ولكن لم يخرج مني أي صوت. فرد ذراعيه ببطء, كل في اتجاه, وانحنى على ركبة واحدة ... بدأت أركض نحوه بسرعة منتفضا محاولا تنبيهه إلى الأفعى التي على وشك ان تلتهمني حيا. وقفت للحظة محملقا بصاحب العباءة وبأجنحته المنيرة ... شعرت بألم شديد مفاجئ في ظهري ألم تسبب في تشنج جسمي كله  ... جعلني أصرخ بصوت مدوي شعرت بأنني افقد الوعي ... لقد لدغتني الحية!

 فـي  هذه الأثناء, تم استدعاء عمي وزوجته من الطبيب المعالج لابلاغهم بالتقييم النهائي للحالة. وقف الطبيب ناظرا بحزن نحو الزوجان المترقبان, وخرجت الكلمات بصعوبة من فمه.
"الحالة
مش هتتقدم عن كدة ... للأسف, كل المؤشرات مش في مصلحتنا ... النشاط الموجود بالمخ شبه معدوم مفيش أي استجابة لاختبارات الوعي أو الإحساس اللي بتتعمل مفيش أي اثر للحركة في أي واحدة من أطرافه ... الذاكرة مختفية ...  مفيش أي محاولة للكلام طبعا احنا عارفين إنه حتى لو حب يتكلم مش هيكون في صوت أوي, لإن الاحبال الصوتية متاثرة بجهاز التنفس الصناعي لغاية دلوقتي لكن هو مش بيحاول أصلا ... احنا باصين لشلل رباعي في أحسن الحالات, ولسة مش عارفين إيه المراكز اللي في المخ اللي هتكون اتأثرت ... أنا آسف!"
وقف الزوجين في ذهول وصمت لدقيقة , فـهناك بعض الأخبار التي تصدم المرء مهما توقعها قبل أن تقال له اهتز هاتف الطبيب المحمول في يده , فـاستأذن ليرد على المكالمة وخطى بعض الخطوات بعيدا
"بتقول إيه؟" ... قال الطبيب ردا على ماقيل له بالمكالمة... "أنت متأكد من الكلام ده؟" ... اكمل حديثه في تعجب شديد وانفعال غير مفهوم …. "طيب, أنا هابلغهم حالا!"
وصل عمي الذي يعيش بالخارج إلى مطار القاهرة في ساعات الليل مع إبنته ... كان يؤدي فريضة الحج حين علم بالخبر, واتفقت الأراء ان يكمل الفريضة أولا ثم يحضر إلى مصر لرؤية اخيه. دخل إلى غرفة العناية المركزة في زيارة استثنائية التوقيت باذن من مدير المستشفى, الذي تربطه به علاقة صداقة قديمة.
"يا
دكتور حضرتك عارف, ممنوع الدخول في الوقت ده خلاص" ...قال رَجل الأمن الواقف على باب غرفة العناية المركزة.
أخذه
الطبيب إلى ركن هادئ وحدثه بهدوء, وأشار من بعيد لعمي بالدخول.
دخل
عمي بعينين باكيتين إلى الغرفة و فتح الستار, ونظر إلى والدي وهو مغمضا عيناه.
"مجدي!" قال
وهو يبكي بشدة, وتبكي معه ابنته.
لا أدري كم مر علي من الساعات وأنا بداخل الكابوس, كنت اشعر بنفسي أختنق, أتصبب عرقا, اصرخ من الألم الذي امتد في لمح البصر بجسدي كله اثر لدغة الأفعى. اتذكر انني كنت أستيقظ بشكل طفيف على فترات, فـأسمع صوت دعاء جدتي, وصوت بكاء أختي, ولكني لم أفق بما فيه الكفاية لأتحرك, فـسرعان ما كان يتم سحبي مجدد إلى كابوسي, الذي طالت فيه لحظة احتضاري وتألمي.
[TO BE CONTINUED]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق