الاثنين، 22 نوفمبر 2010

المستحيلات الثلاثة (الجزء الرابع) – الحلم

ملحوظة: هذا ال post هو الجزء الرابع, قبل الأخير, من سلسلة أحكي فيها قصة مبنية على قصة حقيقية, ليس الهدف من روايتها هو استعطاف الاخرين, ولكنه لحكمة تظهر في النهاية ... لم استطيع رواية جميع الاحداث في 4 أجزاء, فـاضطررت ان أضيف جزء خامس اخير, تنتهي عنده الاحداث. انصح بقراءة الأجزاء السابقا قبل قراءة هذا الجزء. اعتذر عن طوله وأتمنى ان يحوز اعجابكم. إلى أصحاب القلوب القوية, أقدم لكم الاجزاء الأخيرة من القصة التي غيرت حياتي ليومنا هذا ... بسم الله الرحمن الرحيم ...  
-Links to previous posts-

مرت علينا شهور في الصراع الدائم بين الأمل واليأس, كثرت فيها الزيارات اليومية التي قيل لنا فيها ان نحدثه , فـلربما يفيق حين يسمع صوت مألوف. في كل مرة يزداد الوضع سوءا, حتى اصبحنا نعتبراليوم الذي لا يحدث فيه تدهور تقدم. كنت كلمة أنام , يتكرر نفس الحلم طيلة هذه الشهور. كنت اشعر بأنه هناك شيء يجب ان يتغير فـيغير معه نهاية الحلم أو لنكن أكثر دقة, الكابوس المتكرر.اتذكر من هذه الزيارات الكثيرة التي استمرت على مدار الشهور ثلاث مرات محفورين داخل ذاكرتي, لن انساهم طول حياتي.

الزيارة الأولى كانت اول أيام العيد. لم أكن أدرك ذلك منذ بداية اليوم, ولكن تذكرت عند دخولي غرفة العناية المركزة. كان قد قيل لي ان جسمه قد انتفخ قليلا بسبب توقف الكلى عن العمل مما أدى إلى إمتلاء جسده بالمياه, ولكن لم يكن هناك ما يمهد لما رأيته. فتحت الستار الذي كان يحيط بسريره, ومن حسن الحظ ان سريره كان  بجوار النافذة. طل من هذه النافذة ضي جميل هادئ  من الشمس, كالذي أراه كل عيد يطل من نافذة منزلنا  بعد صلاة العيد, حين يكون الجميع نائمين. ولكن إنعكس هذه المرة على وجهه المنتفخ كحال باقي جسده, وكأنه سينفجر, وجهاز التنفس الصناعي خارج من فمه. نظرت إلى يده المنتفخة ايضا, وكانت هذه أول مرة أضطر فيها إلى مقاومة البكاء وأنا بجواره. فقد شعرت بأنه مازال لدي الكثير لأقوله , وبأن هذه لا يمكن ان تكون النهاية. نظرت خلفي لأتاكد من عدم وجود من يراقبني من الممرضين, فقد كانوا متابعين للحالة ومتعاطفين جدا معنا. بتردد, وضعت يدي على يده, وانحنيت قليلا تجاه الأرض, بالكاد محافظا على جفاف جفوني. همست بصوت منخفض بما كنت أريد قوله طول حياتي, منه كلام عن الأسف, منه عن اللوم, منه عن حبي له, منه عن أسراري, ومنه رجاءا إليه ليفيق ويفتح هاتين العينين اللتان طال غلقهما وطال معهما غياب بسمتنا.

الزيارة الثانية ... كانت أكثر رعبا من الأولى. لم يكن هدوء اعصاب الاطباء متماشيا مع الحالة التي اصبحنا نراه عليها كل يوم. قيل لنا حينها بأنه قد بدأ في فتح عينيه وأن ذلك لا يعني شيئا, فالإدراك ليس له علاقة بالعينين, وكما هو متوقع انه حتى إن أفاق فقد تكون اجزاء من المخ تضررت بشكل لا يسمح له بالتجاوب أو الاستيعاب. اهتزت المؤشرات الموجودة على شاشة النفس بشكل مرعب. كنت اعتقد دائما بانها يجب لها وأن تتبع نمط معيَّن يتكرر, ولكن الخط المرسوم على الشاشة كان أبعد مايكون عن ذلك, بين إرتفاع شديد وانخفاض مرعب. كان قد تم وضعه على جنبه حتى يتمكنوا من معالجة قرح الفراش التي اصابته, وقد أخرجوا انبوبة التنفس الصناعي من فمه, حتى لا يصبح معتمدا عليها تماما إن أفاق. دخلت أنا بالإبتسامة المعتادة التي كنت أحاول الإبقاء عليها كلما دخلت إليه عسى ان تطمئنه إن كان يراها فعلا حين يفتح عيناه , وكنت أحاول أيضًا ان اتكلم معه كما نصحنا الأطباء. ولكن هذه المرة لم أستطع الكلام أو الإبتسامة, لم استطع حتى ان أكمل دقائق الزيارة ... فقد كان وجهه شديد الإحمرار, وجسده ينتفض إلى الأعلى في كل مرة يحاول فيها ان ياخد نفسه, ينتفض بدرجة مرئية من آخر غرفة العناية المركزة,  مع صوت النفس الذي بالكاد يدخل إلى رئتاه ... ولكن ما ارعبني أكثر من كل هذا هي عيناه ... كانتا مفتوحتين على مصراعيهما كحال فمه, يملأهما الاحمرار, لا يرى بهما أيا من الحركات التي حاولت لفت نظره بهما... حتى تمنيت أنه ماكان قد فتح عينيه أصلا!

الزيارة الثالثة كانت بعد ان تم نقله إلى مستشفى أخرى على طريق مصر-اسماعيلية, لما بها من أجهزة حديثة حتى نستطيع تقييم ما وصلنا اليه, وتقييم الاضرار التي غالبا ماستكون قد حدثت إن افاق أو بمعنى اخر, إن استجاب إلى أيا من اختبارات الوعي التي كانت تطبق بشكل يومي دون استجابة. من أصعب المواقف التي يمكن ان يقابلها الإنسان هي ان يقال له ما يجب عليه تصديقه رغم ماتراه عيناه من مؤشرات لعكس مايقال. فـقد قيل لنا نتيجة سلسلة الاختبارات التي تمت فور وصوله إلى المستشفى الجديدة, أنه قد زال الخطر تقريبا, وأنهم قد تمكنوا من ازالة جهاز التنفس الصناعي بشكل دائم, وأن الحالة مستقرة, ولكن تبقى المشكلة الأكبر وهي انه لم يفق بعد. صحيح انه لم يعد مغلقا عيناه, ولكنه فقد الوعي تماما. تقييم الاطباء المبدئي طبقا لآشعة الرنين المغناطيسي على المخ يؤكد بأنه إن حدث أي تحسن, لن يستعيد وعيه كاملا, بل سيفقد القدرة على الفهم والاستيعاب, و الكلام, والحركة. أظهرت الفحوصات وجود الحد الأدنى من النشاط بالمخ, مما يؤكد وجود شلل رباعي وتأثر جزء كبير من خلايا المخ التي فقدت وظيفتها بشكل نهائي ... ولكن لم يستطع أحد التنبؤ باي أضرار إضافية أو أكيدة آن ذاك, لأنه كان لايزال طريح الفراش حتى يتم علاج قرحة المعدة والجهاز التنفسي وسائر الأعضاء الأخرى التي تأثرت على مدار شهر ونصف كاملين قضاهم مغلقا عيناه تماما, لا تظهر عليه اثار الحياة.

لا يقل مارأيناه في هذا اليوم رعبا عن سائر الأيام. لأول مرة منذ شهور رأيناه جالسا نصف جلسة. كان سرير العناية المركزة مرفوع الظهر لمساعدته على التنفس بشكل طبيعي. وكانت هذه اول مرة منذ شهور أيضًا نلحظ بها كم التدهور والضعف الذي حل به, فـفي المستشفى القديمة, كان دائما راقدا تماما ومغطى , مما كان يحجب عشرات الكيلوجرامات التي فقدها في الوزن. أصبحت ترى عظام قدميه حين تنظر إليهما, اصبحت ترى بوضوح الندوب التي حالت بيده وكتفيه نتيجة الحقن والمحاليل التي كان يأخذها, و أهم من كل ذلك, أصبحت ترى النظرة الخالية المرسومة على وجهه. حدثته كما أفعل دائما, وحاولت ان اتحرك كالمجنون أمامه لعله ينظر تجاهي, أو يتجاوب بأي طريقة, ولكنه لم يفعل. وكم هو مؤلم, الشعور الذي يأتي حين تكون في إنتظارهذه اللحظة منذ زمن ... تتوقع منه ابتسامة أو أي رد فعل تتوقع في احلامك ان يأخذك بين ذراعيه لأنه افتقدك بعد شهور لم يرك بها ... وتصطدم بالواقع الذي يزيد رعبا عن الكابوس بأنه لا يراك لا يعرفك لا يتذكرك ... لا ينظر إليك!
خرجت من الغرفة حتى يبقى وقت لأختي والأخرون بالاطمئنان عليه. دخلت أختي, وجلست أنا في غرفة الإنتظار. كنت مؤخرا أغلق عيني كل حين واخر عن قصد لأرى نفس الحلم المتكرر في خيالي, عسى ان اجد له تفسير ... عسى ان أفهم معناه! أرحت دماغي على مقعد غرفة الإنتظار ورأيت نفس المشهد...

....
نظرت إلى
الأعلى  فوجدتني بجوار قدم هذا الكائن القميء. انتفضت واقفا, وأخذت بضع خطوات للخلف مبتعدا عنه في محاولة لتهدئته. تزايدت حبال الدخان المتصاعدة من الرماد الموجود بيني وبينه, واخذت تلتف حول بعض مكونة شكل غريب ثلاثي الأبعاد في الهواء. اشتعلت بعض النيران من الرماد وارتقت شعلتها إلى أعلى . حاول الغول ان يتحرك في إتجاهي فـازدادت الشعلة شراسة, وبدأت ألسنة اللهب  في الحركة والإلتفاف بسرعة وكأن كل منهم تلاحق الأخرى. بدا الرماد الموجود على الأرض وكأنه يتجمع في المركز, ويرتفع في شكل دوامة تصل إلى مركز الشعلة الطائرة. اندمج الرماد بألسنة النيران بشكل ساحر وكأنهما يلتحمان لتكوين كيان واحد و انبعث نور شديد من مركز الالتحام أضاء الليل الذي كان يحيط بينا. سمعت صوت صراخ رهيب صخب من صوت ضعيف مستنجد ... صراخ يكاد يكون مستحيلا في حد ذاته, يكاد يصم الآذان ...

استمر الصراخ واشتد الضوء وازدادت ضراوة النيران, وبدأت أرى كل هذه القوى وكأنها تتحول إلى كإن ما... يتحرك, يزأر بألم وقوة. سرعان مابدأ الضوء في الخفوت, واختفت اثار الرماد, وظهرت ملامحه. هو نفس الطائر الذي احترق من قبل فتح جناحيه ملتهبا محترقا صارخا, معلنا عن ميلاده من جديد. نظر إلى السماء بفخر وهو يرفرف بجناحيه, و زأر بقوة مخيفة , فـاشتعلت زراته كلها معه من جديد إنه طائر العنقاء. انطلقت العنقاء إلى السماء محترقة و أدرك الغول في هذه اللحظة ميلاد عدوه اللدود من جديد, فثارهو الاخر, ونظر إلى  السماء بغضب وصدر منه عواء صارخ شرس , اهتزت له  الأرض من تحتي, و ظهر له في السماء برق مخيف لم أرى مثله  في حياتي. كان المنظر من الاسفل مبهر فالعنقاء طائرة بسرعة الريح مشتعلة تحت سحب السماء الغاضبة المملوءة بالبرق, مع صوت صراخها المدوي وصوت عواء الغول الغاضب.

نزل الغول بنظره إلي, و إنقض يهاجمني, فـأغمضت عيني بسرعة. شعرت بشيء ما يمر بسرعة رهيبة أمامي. فتحت عيني فوجدت العنقاء وقد انقضت عليه من الجنب بحجمها الكبير لإنقاذي. من مرقده, وقف الغول بهدوء وضم جسده إلى الداخل, وفتح ذراعه وهو يصرخ. تحولت ملامحه لتصبح أكثر شراسة, و خرج من فمه لسان طويل يتلوى, كألسنة الثعابين ... تحرك نحونا ببطء.  لاحظت انه قد بدأ يمشي على أطرافه الأربعة.
بدأ هو والعنقاء في التحرك في شكل دائري حولي, في المنطقة التي كنا نقف بها في وسط أشجار الغابة, كالمصارعين الذين يستعدون لمهاجمة بعض. كل منهم ينظر للاخر نظرة غضب وتحدي .تصرخ العنقاء فـتزداد اشتعالا ويصرخ الغول فـتزداد السماء غضبا, تسمعها تجيب لصرخاتهم برعدها. فهمت من نظراتهم أنهم تفصلهم عن الصراع ثواني , فـجريت بعيدا مختبئا وراء شجرة. لم أكد استدر إليهم من مخبأي حتى انقض كل منهم على الاخر في صراع لم ولن أرى مثله في حياتي ... صراع من اجل البقاء.

مضت دقائق من القتال الضاري بينهم, كانت العنقاء تحاول فيها الطيران حول الغول بسرعة, ليحترق بالنيران التي تتركها خلفها. عوى الغول مجددا و دب بيديه على الأرض, فـاهتزت, وانهمرت من السماء أمطار كثيفة. لاحظت مع الوقت ان المياه بدأت تفقد العنقاء قوتها, أصبحت صرختها ضعيفة ونيرانها خافتة, حتى نطحها الغول بدماغه قافزا في اتجاهها, فـطارت تجاهي في الهواء دون أجنحة وسقطت بيني وبينه. إبتسم بفخر وتحرك نحوي ليحظى بغنيمته. رأيته يقترب, وسمعت صوت الطائر يصرخ بضعف مستنجدا وكأنه يبكي. حاول بكل ما أوتى من قوة النهوض قبل ان يصل اليه الغول فيطيح به للمرة الاخيرة ... بالكاد تمكن من ان يصلب طوله نظرا نحوي. نظر إلي بضعف, وكأنها النظرة الأخيرة ... رأيته يبكي من الحزن, وكأنه يعتذر لعدم قدرته على ان يحميني بعد الآن ...

خرجت أختي من الزيارة. أفقت من الرؤية المتكررة على صوتها في غرفة الانتظار. حاولت ان تتماسك للحظة أمامي وامام اقاربنا الموجودين بالغرفة الذين حولوا طمأنتها قبل أن تبدأ بالكلام, فـكانت هذه هي القشة التي قسمت ظهر البعير. رأيت دموعها تنزل بدقائق قبل نزولها, كنت اشعر بها, وأعلم ما لاحظته من ضعف وقلة حيلة على وجهه. ضممتها في حضني حتى أعطيها الفرصة لتبكي بالحرقة التي تشعر بها, وبالصوت المكتوم الذي تريد اطلاقه,  و بالمدة التي تحلو لها بعيدا عن أعين المشفقين.
طمأنت أختي بكل ما استطعت التفكير به من كلام ...
"متقلقيش
إن شاء الله كل حاجة هتبقى تمام أنا موجود جمبك أنا مش هروح في حتة لسة في أملأنا هنا اضعفي وعيطي زي مايعجبك أنا هنا عشان أسندك"
وفجأة وسط
حديثي لمعت بدماغي فكرة في لمح البصر ,تجمعت بدماغي  كل الخيوط لتحل الالغاز التي لطالما طال تعقيدها فهمت سر ضعف العنقاء وقوة الغول فهمت القوة التي أمتلكها فوقه ... فهمت من هو!
[TO BE CONTINUED (for the last time)]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق