الثلاثاء، 22 مارس 2011

ليلة في انتظار المستحيل



كعادتها, تحدق بي ورقتي البيضاء الخالية. تنتظر ان أطلعها بعنوان الليلة, فتبدأ بذكاء في استدراجي لأجد نفسي أكتب صفحات طويلة. ولكنتلك الصفحة بالذات قد طال انتظارها. اتعجب من صبرها. قد مضت عليها سنين, قضتها مترقبة. تعلم تماما ان التأخير لا يعني انني قدنسيتها ... ولكنه يعني فقط انني لم اقدر بعد على كلام في الموضوع الذي خصصته لها ... الليلة قد نفذ صبرها ... كانت لتعذرني علىالتأخير إن علمت قدرها, كانت لتعذرني إن علمت أنني قد خصصتها لكي.

اذكر أنني كتبت عنك كثيرا منذ سنين. مازلت اذكر العبارات التي كان مدرسو اللغة العربية يقومون بتحفيظنا إياها لإمتحان التعبير ..."حملتناأشهر وهنا على وهن","سهرت الليالي لترعانا في مرضنا و صحتنا","تعبت في رعياتنا وتربيتنا"... واذكر المرة الأولى التي قررت فيهاأكتب منذ عقد من الزمن. اذكر جيدا ان السبب كان لأكتب عن حبي لكي.

مضت
 أعوام على آخر مرة خط فيها قلمي تلك العبارات أو حكى فيها عن ذلك الحب, وكم أحدثت تلك الأعوام من فارق. كما كنتي تتمنينبصوت عال ... كبرت وشببت ... مازلت متمسكا بالمبادئ التي علمتيني إياها ... بكل نظرة عتاب حين أخطأت , بكل نظرة تشجيع حينأفلحت, بكل نظرة حب وتفاؤل وأمل كانت كل ما أتمنى رؤيته صغيرا. ولكن, يكبر البشر, وينسون كم أحبوا تلك النظرة وكم سعوا لذلكالرضا الذي يمكنهم من هد الجبال. ينشغلون بالحياة, يلتهون بـانبهارهم بما لم يكن مسموحا لهم بفعله من قبل بحكم سنهم ... يبتعدون, يغترون, يعتمدون على وجود هذا الوجه الباسم و الصدر الحنون في انتظارهم متى يختارون الرجوع ... يخطئون!

يخطئ كل من تناسى ذلك الفضل, ولو مؤقتا. يخطئ كل من سمح لنفسه ان يتعدى حدوده, أو ان ينام وقد تسبب لهذا القلب بلحظة ألم, ولميندم ولم يصالح ... حتى وإن لم يشعر, حتى وإن لم تظهر ضيقها. يخطئ كل من منعه كبره وعزة نفسه من الندم أو الاعتذار. يخطئ كل منيظن ان سنه الآن لا يتناسب مع حنانه لها واحتياجه اليها و دلالها عليه. يخطئ من يظن بأن تفهمها لجفاوءه بحكم انه  "لم يعد طفلا" يعفيه. يخطئ من يظن بأن هدية وقبلة في عيد ما تكفي. يخطئ من يظن بأن العمر أمام الجميع طويل, أو يتعامل على هذا الأساس ... نعم, من منابلا خطايا؟ ولكن الأهم, من منا مازالت لديه الفرصة؟ ومن منا لم يتبق له إلا الذكرى؟

مازالت أذكرك .. كل شيء عنك. اذكر و بـكتماني يظنوني قد نسيت. اذكر  تبسمك إلي في عز ألمك وابتلائك. اذكر تضحياتك التي أعلمها, وأدرك أنني لا أعلم منها الكثير. اذكر عيون  فارقها النوم خوفا عليَّ ودعاءا. اذكر مزاحنا الذي لم يفهمه غيرنا. اذكر مشاهد ومواقف منالمفترض ان أكون قد نسيتها, ولكني أذكرها, فليس لدي غيرها. اذكر كلمات صداها لا يزال في أذني, صوتها خافت ... ثابت. اذكر الحببدون شرط, الحنان بدون حد, الغفران مهما كان خطئي قد اشتد.احلم بكل هذا  ... ولكني سرعان ما اصطدم بالحقيقة 
حقيقة أنكي
 لم تعودي موجودة ...

كم تمنيت ان تعودي حتى لو للحظات ... أقبل فيها يدك, ارتشف فيها ريحك, انحني أمامك أسفا إن كنت قد سببت لكي لحظة ألم أو شقاء أحتضنك بين أذرعي فأجدني أنا الذي ارتمي بين أحضانك, "محال أن أرى صدرا أحن عليَّ من صدرك" ... أشكو اليكي وحدتي و أذرف دمعة ارتياح حين أسمع صوتك الحنون يطمئنني و يصبرني على تلك الفكرة السخيفة بأن امضي في حياتي بدونك, و يوصيني بتحمل تلكالليالي الطويلة المؤلمة.

كنت أظن طيلة هذه الأعوام انني امتنع من الكلام عنك بمحض اختياري. ولكني اليوم أدركت كم من الصعب الكلام. فـحين يستعصي البوحعلى الكلمات, تظل الورقة بيضاء خالية ... لساعات طويلة  لأعوام مديدة...  كنت أظن فيها أنني نجحت في إخفائك عن كل عواملالتعرية التي يفترس بها الزمان ذكرياتى. ادركت اليوم انني ماكنت أضحك سوى على نفسي. أعوام قضيتها أنظر بالمرآة, أهنئ نفسي علىقوتي وتماسكي ونجاحي في الإبقاء على أسرار ضعفي. اليوم ادركت انني ماكنت أهنئ نفسي إلا على قدرتي على خداع نفسي. استرجعت كتاباتي, تمعنت بها  ... فوجدتك بين سطورها, تطلين من خلف حروفي حين لا أنظر, تظهرين في كل صفحة دون ان أشعر. إكتشفت اننيماكنت أكتب إلا عنك, وما كنت أكتب إلا لكي. ترى هل تعجبك كتاباتي؟ قررت اليوم ألا أتوقف عن الكتابة حتى تنصاع إلي كلماتي التيتهرب مني -على غير عادتها- كلما حاولت ذكرك عن قصد... اليوم أذكرك , وما قد نسيتك يوما. اليوم, اذكرك بإبتسامة لا بدمعة.

ومما يزيد تخلفاتي وهما هو الظن بأن امتناعي عن ذكرك في كلامي, أو  الحديث عنك مع من حولي, أو السماح لنفسي بأن أضيف إلىذكرياتي معك بالحوار مع المقربين إلينا عنك, فـإنني سأتمكن من الإبقاء على تلك الحالة من النكران, ذلك الإيمان -الذي يتحدى المنطقوالعقل- بأن كل هذا ما هو إلا كابوسا, مقدرا له الانتهاء بين لحظة وأخرى, وتعود عندها الحياة إلى طبيعتها ... التي قد ضللت طريقي فيالبحث عنها.

أشكو اشتياقي إليكي .. منكي إليكي .. ولكني سئمت الشكوى دون جدوى. يقولون أنه تضيع مع الجفاء لهفة الأشواق, وأنه إن طال النداء دونجواب هدأت آلام الإفتقاد إلى الأعماق. و كم طال صبري, وطال الجفاء. كم مرت عليَّ ساعات ناظرا إلى السماء ... متأملا, منتظرا إجابةمستحيلة  و كم بانتظار المستحيل شقاء!

كأنه شعور بظمأ لا ترويه مياه الكون... ألم لا يهدأ ولا يكل  صمت لا ينقطع ولا يمل  فراغ أبدي, لم ولا لن يملأ ... وتخر من جسميكل جهودي ... يجف قلمي و ينكسر عودي. و تسقط دمعتي  حين أنأى عن عيون  الإشفاق بين جدران أرْبع. تضيق بيَّ دنيتي, و يخيم الظلامعلى رؤيتي, وتتقيد باكتئابي حريتي ... حتى أشعر ان ذلك الكون الواسع لا يقوى على حمل همي ... يعجز عن تقديم ما يداوي المي!

أتلفت ... تبحث عنك عيني بين الوجوه, أتنفس فأختنق بالهواء الذي لا يحمل عطرك ... و تتوهم حواسي بوجودك في عز اشتياقي إليك. أبحث يائسا عن تلك النظرة التي لطالما استطاعت ان تنتشلني من اعماق كآبتي معيدة الي الأمل ... ولكني الآن لا اجد املا يحويني ... فقط الام تستهويني! ... وسرعان ما أدرك بعد طول عناد أن مبتغاي اليوم مستحيل ... وياله من إنكسار ... طموح منكسر في وسط الآفاق ... دمع على لقاء قتله إلى الأبد الفراق. ينزف قلبي ومن نزفه تكتب الأوراق ...

وافيق من أفكاري على صوت اذان الفجر القاسي... واتذكر وصيتك لي بالصمود. فأقرر ان اقف من جديد و أن أحاول من جديد, حتى وإنكنت أعلم نتيجة محاولاتي مسبقا, في ان أتناسكي. و أمام نور الشروق الملح لبدء "يوم جديد وصفحة جديدة", لا اجد حلا إلا ما وجدت منقبل  بأن أخبئك سرا بداخلي  فذكرياتك كل املاكي. واختار من جديد ان أعيش مصطنعا ... على ان أنساكي ...

في الجنة ميعادنا إن شاء الله

(أسألكم الفاتحة)