الجمعة، 22 أكتوبر 2010

الأسير


كلمة من أرْبع حروف, تحمل معها كل شيء عنا. كلمة واحدة تلخص معرفتنا, خبراتنا, تجاربنا, مخاوفنا , امانينا... تشير إلى مانريد وتفسر لماذا نريده, تفصح عما بداخلنا وتفسر لما هو بداخلنا. كلمة... كم تمنينا ان ننساها في أوقات, وكم تمنينا في اوقات أخرى ان تبقى إلى الأبد ... محتواها يكون احيانا هو الشيء الوحيد القادر على اخرجنا من اعمق ظلمات اكتئابنا , واحيانا أخرى هو الشيء الوحيد الذي بامكانه ان يطاردنا في سماء افراحنا وأحلامنا ويذكرنا بـالواقع الذي نعيشه. كلمة واحدة من أرْبع حروف تشكلنا, تعطينا هويتنا, تحوي سرنا وعلانيتنا. وكم تمنينا ألا تؤثر بنا لهذه الدرجة؟ كم تمنينا ألا تعرف عنا كل هذا؟ كم تمنينا ألا نكون بهذا الضعف حين نواجهها ... حتى لا نبقى أسرى لها؟ ...
هي ال"ماضي"!
يحاول  البشر جاهدين نفي ارتباطهم به أو تأثيره عليهم, وهذه الأسطورة موجودة من قديم الأزل. فنجد بعض أجدادنا يعيدون على مسامع أنفسهم اقوال مأثورة مثل اللي فات مات" أملا في ان نصدق فعلا في يوم من الأيام, في جيل من الأجيال, ان غدا يوم جديد وصفحة جديدة لا علاقة لها بالماضي. وليت الأَمر كان بهذه السهولة. من المطمئن ان نعلم أنه كان هناك بعض اخر من أجدادنا أكثر ذكاءا, فقرروا مجابهة هذه الموجة بنشر القول المأثور ماكانش حد غلب" أو كان غيرك اشطر".
ورغم ذلك, فأنت لا تتعلم. تحارب نفسك وتضغط عليها بكل ما أوتيت من قوة لتصدق ان بامكانك ان تستقل عن ماضيك تماما. وقد تنجح لفترات طويلة أحيانا. ولكن مهما طالت هذه الفترات, تجد نفسك عائدا له دون ان تشعر , مفكر به, متمسك به, شئت ام أبيت. تجد نفسك تسترجعه في لمح البصرفي موقف ما... حين تضحك بتلقائية تفاجئ بها نفسك, أو تقابل شخصا كنت تعرفه من زمن,أو حين تكون وحيدا تبحث  كالمجنون عن شيء تفكر به كالعادة. ولكن تأتي لحظة ما, يصبح فيها من المستحيل الإستمرار بكل هذا الوزن على أكتافنا, كل هذا التأنيب, المراجعة, الندم, الألم وهنا يصبح جليا دور النسيان.
النسيان شيء عظيم.في الحقيقة هو من المفاهيم المفضلة لدي ضمن ماخلق الله من مفاهيم. مجرد التفكير به يثير ضحكي لسبب ما. هل هو موجود فعلا؟
النسيان دونه نبقى أسرى الماضي, أسرى جراحنا وآلامنا و احزاننا السابقة, نبقى عبيد لأفكار عفا عليها الزمن. إذًا هو موجود.
لكننا ننسى وجوده في عز شقائنا, ونظن للحظة ان مانشعر به من ألم باق إلى الأبد. ننكره على من رحلوا عنا إلى رحمة الله ظنا منا ان هذا يحيي ذكرهم ويكرمها, بل ونحرمه على أنفسنا دون ان نشعر, فيما يتعلق بمن أحببناه فهجرنا, تمسكا منا بالقضية الخاسرة باننا كنا محقين حين ظننا فيه الاخلاص الابدي وقررنا ان نحبه حب لا ننساه أبدا, نصدق فعلا ان هذا ممكن. إذًا فالنسيان ليس موجودا.
وبعد ان تقتنع بأن من ذهب قد ذهب , يساورك إحساس, تواسي به نفسك, بأنه هناك حدث ما سيصلح كل شيء, وان هذا الحدث على وشك الحدوث, ولكن سرعان ماتدرك ان شعورك تجاه هذا الحدث ليس انتظارا بل هو أقرب إلى الوهم. وهنا تبدأ في تقليد سلوك الطفل المدلل الذي يخاف الحقن واقترب موعد حقنته, يصرخ ويبكي لربما يغير الحقيقة التي يعلمها هو نفسه وهي انه سيأخذ الحقنة في أي الأحوال, ولكن الحقيقة التي تحاول انت الهروب منها في حالتك هي ان الحياة يجب لها ان تستمر, وانه شئت ام أبيت,سيتحرك عقرب الثواني في الساعة ويغير معه الكثير من الأشياء من حولك ... لا, لن يتوقف مهما تمنيت ذلك.
و بعد ان تنجلي لنا هذه الحقيقة, ونبدأ بفهم حقيقة ماحدث بالفعل, وخاصة إذا ادركنا أننا كنا نحن المخطئين, نعود ... خائبين الرجاء, فاقدين الأمل, متذللين للنسيان, ننتظر إتيانه, نادمين على القناعة التي تملكتنا في يوم من الأيام باننا أبدا لن نحتاجه. وهنا يصبح النسيان كالدقيقة التالية, كلما زاد ترقبها , طال غيابها. اضاع الكثيرون فترات من عمرهم في انتظاره دون جدوى. تنتظره ... وتنتظره ثم تنساه ... فـينسيك ما اردت نسيانه.
إذًا فال نسيان موجود فعلا!
نخاف منه أحيانا ان ينسينا مالا نريد نسيانه, ان يأخذ منا ذكريات نعشقها, ذكريات قد تكون هي كل ما تبقى من شخص ما, حتى اننا نجد انفسنا نسابق النسيان أحيانا إلى الأفكار التي نريد الابقاء عليها. النسيان يصبح التغيير دونه مستحيلا, ويصبح المضي قدما سراب نطارده بطموحنا الإنساني الساذج ولا نصل اليه. يعطينا الفرصة لأن نسامح, لأن نتطور, لأن نكون.
وبعد يوم شاق وطويل نواجه فيه اختبارات عصيبة, لحظات مستحيلة, صدمات من المقربين إلينا, ضغوط من متطلبات الحياة, بعد مواقف تجعلنا نشك في كل مانؤمن به, مواقف تستطيع ان تزلزلنا من الداخل, تستطيع ان تطيح بكل ما تبقى لدينا من قوة, تصبح النجوم التي تلمع في سماءنا المظلم أقرب الينا من ذرة أمل. ولكن لمن يصبر ... لمن يستطيع ان يبقى على قناعاته بأن كل شيء زائل , لمن يصدق فعلا بأن الله تعالى يعلم بضعفنا أمام ابتلاءات الحياة, وأنه خلق لنا زاد رحلتنا كمان خلق لنا مشاقها, لمن يعلم قدر النسيان الحقيقي ولا يسمح لنفسه ان ينجرف في تيار الشفقة على النفس والشعور بأن كل شيء قد انتهى  ... يأتي النسيان. النسيان خداع بصري مؤقت, نسمح له بأن ينال منا حتى نستطيع ان ننهض من جديد.
 هكذا نستجمع القوة لنصحو في اليوم التالي ونعيد الكرة, نجدد قرارنا بالاستمرار,نعزز رغبتنا في النجاح, ونقرر مجددا, رغم كل ما القت به الحياة في طريقنا من دواعي لفقدان الأمل, ان نستمر في الصراع من اجل البقاء, وان نحارب للوصول إلى مبتغانا.
ولكن حين نشعر بأن المصائب قد فاقت طاقاتنا, نشعر برغبة ملحة في ترك كل شيء, ولا نهتم بمصير مجهوداتنا السابقة, املا منا في ان يزيد هذا من فرصنا في فتح  "صفحة جديدة" دون غلق القديم من الصفحات. في هذه اللحظة, نستغل قدرتنا البشرية في اقناع انفسنا بأي شيء. نقنع انفسنا بأن النسيان حقيقة موجودة, وانه شيء جميل وعظيم , يمكنه اراحتنا من كل مامضى.
نستمتع بفكرة ان الأمس يمكن ألا يكون له على الغد تأثير, وندمن هذا الشعور المطمئن بأن هناك حل اسمه النسيان, وانه حين ينجح انتظارنا الطويل  (الغير مجدي  "ظاهريا فقط") في الاتيان بهذا الحل, نصبح أناس جدد, قد إلتأمت جروحهم وكأنها لم تكن موجودة بالأمس ... نصبح مهوسين بهذا السراب, فنتحول دون ان نشعر من أسرى الماضي إلى أسرى النسيان ...
وتطول فترة انتظرنا فنعود لنسأل انفسنا مرة أخرى
هل هو موجود فعلا؟؟؟
نعم موجود  ... ومثبت علميا أيضًا. قرأت مرة عن شخص كان يتذكر كل تفاصيل يومه بشكل مبهر لا ينسى أي شيء لا ينسى التفاصيل الأماكن الأشخاص الألوان الاحداث على عكس الطبيعي, وهو أننا ننسى كل يوم ننسى بعض الاشياء ... بعض التفاصيل الصغيرة حتى لا يئول مصيرنا إلى مصير هذا الرجل ... أعياه الملل أصابه الاكتئاب انتحر!
إذًا فـكلنا ننسى, شئنا ام ابينا, ولكن تأتي علينا أوقات ننسى فيها ان ننسى, اوقات نريد فيها ان نبقى ضحايا القدَر, ضحايا اخطاء الاخرين ... وكم هو مريح, الشعور الذي يأتي حين نوجه أصابع الاتهام للاخرين وننسى اخطائنا نحن ننسى ان ننسى مايبقينا أسرى للماضي  ...
نخاف من النسيان نخاف اننا إذا سمحنا لانفسنا بأن ننسى ماحدث لنا فقذف بنا في آخر السباق , قد ينسى الاخرون أيضًا ويلموننا على تأخرنا في الوصول  ... ولكننا ننسى أيضًا اننا إذا لم ننسى قد لا نصل أبدا!
فلنعاهد أنفسنا على النسيان فلنعاهدها على الا نبقيها سجينة ذكرياتنا  ... نعاهدها على ان نقوم بكل مافي وسعنا لنصدق أن التغيير ممكن وانه مازال هناك وقت للحاق بالسباق  ... فلنتعاهد على ألا نسمح لأنفسنا بنسيان اخطائنا ودروسنا  حتى لا تفقد معاناتنا الحكمة منها فلنعد انفسنا على ان نذكرها بما آلمها من قبل حين ارتكبت حماقاتها حتى لا نكررها
فلنعدها بـأن نصدق ان الندم ليس ضعف ولا عيب  ... بل هو, لمن يعرفه جيدا, اكثر الطرق ثباتا إلى التعلم من أخطائنا. أسمع الكثيرون يتباهون بانهم أبدا لم يندموا على شيء في حياتهم أكاد أقسم بأنهم يعيدون نفس اخطائهم من جديد.
فاسمح لنفسك بان ترى ان مافعلته خطأ اسمح لنفسك بان تتألم وتندم وتحترق حتى تستطيع ان تعبر هذا الجزء المحترق من طريقك, بدلا من ان تقضي عمرك واقفا عند هذا الحريق, مشاهدا خائفا ... عنيدا ... أسير!