الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

مريض نفسي (Schizophrenia)

جلس في جانب الغرفة المظلم صامتا, لا يتكلم, لا يتحرك, لا يتنفس إلا بما يكفي لابقائه حيا. طالت مدة بقائه في هذا الركن حتى أنه بدأ يندمج مع الخلفية المحيطة به. مضى عليه عمر وهو جالس في هذه الظلمة حتى أنه بات من الصعب على من يدخل الغرفة ان يلحظ وجوده. يداه الممسكتان بأطراف الكرسي الضخم الذي يجلس عليه قد ظهرت عليهم آثار السن, ينعكس عليهم الضوء الخافت  الآتي من الأباجورة الواقفة بجواره. ذقنه  البيضاء الناصعة يمكن بالكاد تمييزها في الظلام المخيم على هذا الجانب من الغرفة.
وقف أمامه شاب في سني .. يشبهني تماما. يتسلط على المكان الذي يقف فيه ضوء قوي  يأتي من الأعلى ... ضوء يكاد يفقده هدوء أعصابه امام كل هذا الاهتمام المسلط عليه.
"إنت لسة هنا؟" قال الشاب وهو ينظر حوله, محاولا ايجاد العجوز القليل الكلام في ظلمة الغرفة الحالكة.
مضت بضع ثواني من الصمت العصيب, فـأعاد الشاب نداؤه وقد بدأ يفقد هدوئه ... "ماترد عليا!"
"غريبة! لسة فاكرني؟" رد العجوز كاشفا للشاب عن مكانه.
"للأسف آه! مع إنك بتزيد شطارة يوم بعد يوم في إنك تختفي وتخلي الناس تنساك!" قال الشاب بشيء من اللوم واليأس
"أنا مش فرجة! اللي عايز يشوفني, يسأل عني .. غير كده أنا مرتاح بعيد عن انظار الناس"
"واستفدت إيه من العزلة اللي إنت فيها دي؟ في ناس كتير ماتعرفش إنك موجود أصلا , فاكرين إن مفيش غيري"
ظهرت عينان لامعتان في ظلمة الغرفة , تلمعان بالثقة والهدوء والحكمة ...
فكرت كثيرا في مقدمة أبدأ بها الكلام عن نفسي, لكن لطالما كانت المقدمات نقطة ضعفي. الطبيعي ان أبدأ بتعريف نفسي في السطور الأولى من الحديث, ولكني فعلتها مجددا ... تهربت كما أفعل دائما من هذا السؤال. لماذا؟ ببساطة لأن الإجابة المنطقية التي ترضي السائل  ماهي إلا كذبة كبيرة, أكاد أصدقها أنا نفسي في اوقات ما.فالشخص الذي يكتب هذا الكلام حين يختلي بالورقة والقلم, ليس هو حامل الهوية المعروفة عنه, بل هو شخص مجهول تماما ل اقرب الناس اليه.
لذا فـأنا لم أقرر الكتابة اليوم لاقول لكم ان اسمي علي, أو ان عمري 19 سنة, أو اني الدرس بكلية الحاسبات والمعلومات بجامعة عين شمس. لم أكتب لاقول اني اسكن بمصر الجديدة , أو ان لي أخت توأم لها شعر أصفر وعينان زرقاوان, أو اني اعشق طبق المكرونة باللحم المفروم, لأن كل هذا سيكون مجددا كذب.
من أنا؟ أنا شخصية نادرة الظهور. قليل عدد الذين يعلمون بوجودي واقل هو عدد الذين رأوني فعلا, فـأنا لا أهوى الاهتمام أو الضوضاء. اظهر في اوقات متأخرة من الليل حين يسود الهدوء المخيف, أو حين تضع رأسك على المخدة ولا تستطيع النوم. اظهر حين تكون وحيدا تريد من يؤنسك. أكون معك في غرفتك حين تكون وحدك و يسبق انصرافي بثواني طرق على الباب  أو صوت يخرجك من دنيا أفكارك. اظهر كثيرا اثناء اليوم أيضًا, حين تقف في طابور طويل لا معنى  له, أو حين تكون في سيارتك في طريق عودتك إلى المنزل, أو حين تكون في  السينما تشاهد فيلم ممل لا يعجبك, أو حين تقلب صفحة البوم قديم مضى عليه أعوام. اظهر حين تسمع ما لا يعجبك ممن هم أكبر منك سنا فلا تسطيع الرد عليهم هذا الصمت أنا!
أنا شخصية تكره الاصطناع وتهوى كل غريب, تعشق التحليل والتفكير والتأمل. أنا شخصية تحب ان تجادل نفسها  في كل شيء بدون سبب, تعشق التشكيك والظن, تسمح لنفسها ان تطمح في الكمال, تستفز نفسها بأفكار مستحيلة فـتنقد مالا يمكن نقده وتشكك فما لا يمكن التشكيك فيه, وتعيد التفكير في المسلمات, وتتأمل في أفكار يرى الاخرون ان مجرد التفكير بها خطر. شخصية تسمح  نفسها بالغرور حتى تستطيع ان تبقى انت متمسكا ببعض الثقة الخارجية, لديها مايكفى من الثقة بنفسها ليغنيها عن الظهور من اجل استقطاب إطراء الاخرين.
أنا الجزء بداخلك الذي يعطي الإشارة بأن كل شيء على مايرام , وانك قد نسيت جرح الاخرين, الجزء الذي يولد الشعور الوهمي بانك لم تعد بحاجة إلى من هجرك وانت تحبه, أو انك تستطيع المضي قدما دون من توفاهم الله  وانت في أشد الحاجة اليهم. أنا الجزء الذي يتوقف عن العمل في أكثر الاوقات التي تكون بحاجة اليه, فتثور ظنا منك ان هذا ضد مصلحتك. الجزء الذي يجبر نفسه على الاختفاء حين تريد ان تحب شخصا ما وانت تدرك عيوبه التي لا تطيقها إن وجدت في أي شخص آخر. أنا الجزء الذي يجبر نفسه على الصمت حين تسمع كلمة جارحة من عزيز, حتى تتمكن أنت من مسامحته.
أنا الجزء الذي يحرص على السرية والسكينة حتى يتمكن من المحافظة لك على هويتك امام امواج التغير والزمن. أنا الجزء الذي يعمل جاهدا  يحتفظ بما تبقا من براءتك برغم م نما اليك من معرفة وخبرة  , وبرغم ما فعلته وانت تعلم انه خطأ, وبرغم تقدم العمر يوما بعد يوم. أنا الجزء الذي شاب وبلى أسرع منك برغم انه بداخلك, بين عروقك, داخل اضلاعك, ولكنه يفضل الجلوس في ركن بعيد مظلم هاديء.
وكم من الاوقات نسيتني, فقدت تواصلك معي,تجاهلت وجودي, وهمت النفسك انني مخطئ, فذهبت وفعلت ماتريد بعندك وغرائزك, ثم عدت تبكي وتبكي. كم من الاوقات ضللت طريق العودة إلي بعد ان ابتعدت كثيرا بثقتك الغير مبررة وعجرفتك الكاذبة.
تتعجب أحيانا من تمسكي بأن ابقى هنا وحيدا خفيا. أعلم كم تراني مخطئا بقراري حين اتركك  لتقوم بحماقاتك وأخطائك  دون ان أجبرك على سماعي.أعلم كم تثور نفسك حين يظن فيك الناس الضعف أو السذاجة وانت تعلم اني موجود بداخلك, استطيع ان أملي عليك اقوالك وأفعالك لتظهر امامهم بشكل يرضيك مؤقتا, وأنا أفضل الصمت.
أعرف كم بات من الصعب عليك ان تنظر في المراة ولا تراني, اعرف كم هو صعب على كبريائك الا ترى في انعكاسك سوى شخص عادي وحيد مزيف, لا يعرفه أقرب الناس اليه.
ولكني لمعلوماتك, اتكلم نيابة عنك دون ان تشعر أحيانا ولكن لا يستحق الجميع ان يراني أو ان احظى بفرصة اعجابهم  وهم لا يصدقون بوجودي أصلا. أعرف كم يبدو هذا عنيدا وغبيا ولكن في يوم من الأيام, حين يحين لي الوقت لاتكلم ستعلم لما فضلت الصمت الآن. وها أنا أكتب لك هذا, لعلك تقرأه بعد دقائق من الآن فـيعينك على تحمل عواقب قراري, فـلست وحدي الذي اتحمل عواقب قراراتك انت.
"يا عم ارحمني بقى, حرام عل_"
سمع الشاب صوت طرق على الباب, قاطعه وهو يتحدث. فـاستدار ليرى وجه يطل من وراء الباب , له شعر أصفر وعينان زرقاوان.
"يلا يا علي عشان الغداء!"
استدار الشاب مجددا ليجد نفسه وحده بالغرفة, فنظر إلى المرآة الموجودة بجوار الباب, فـوجد على وجهه ابتسامة ماكرة , وغمزت عينه!

هناك تعليقان (2):

  1. Che2 3azim .. 2aretha fel awal makntch merakez awi fel ma3ani besara7a... bas lama 2aretha tani ... a7ayiik ya 3ali !

    ردحذف
  2. eih ya ali dah.....its very nice ya habiby....ah by the way will switch from ta3meya to makaroona bel ell7ama el mafrooma ..lol:)just let me see you...good luck in all what you do darling we Rabena ma3ak enta we your sis...

    ردحذف